[
التراث الإسلامي مصطلح شامل يتسع لكل ما له علاقة بالإسلام من نصوص القرآن والسنة النبوية, واجتهادات العلماء السابقين في فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع, وقد حصل خلاف حول ما إذا كان هذا التراث دينا مقدسا يجب الالتزام به, أو نصوصا واجتهادات مرتبطة بأزمانها وأماكنها الغابرة, تعامل على أنها تاريخ ينقل لنا تجربة بشرية قابلة للنقد والنقض والتعديل والتطوير بما يتناسب مع الزمان والمكان والظروف الخاصة بكل عصر.
بعضٌ من التقليديين أو (النصيين الظاهريين) نظروا إليه على أنه كله -النصوص الشرعية والاجتهادات البشرية على حد سواء- دين مقدس صالح لكل زمان ومكان ويجب الالتزام به, والوقوف عند كل جزئية من جزئياته, مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(أخرجه البخاري)، هؤلاء أوقفوا عجلة التاريخ ووقفوا عند مذاهب القدماء بكلياتها وجزئياتها, محاولين إسقاط تلك النصوص والاجتهادات على قضايا العصر, حتى القضايا المستجدة إما أن تكيف بما يتلاءم مع ذلك الموروث أو أن تعتبر من بدع هذا الزمان, وحكموا على كل إضافة في هذا التراث بالرد، وعطَّلوا باب الاجتهاد محتجين بأن الله أكمل الدين وأتم التشريعات الكلية والجزئية, ولا داعي لأي إضافة بشرية مستدلين بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، ونتيجة هذا التفكير وقف هؤلاء عاجزين عن حل مشكلات العصر واستيعاب مستجداته, وضيقوا الإسلام عن أن يعالج تلك المشكلات ويستوعب تلك المستجدات, وعن أن يكون صالحا لكل زمان ومكان.
وبعضٌ آخر من الحداثيين نظروا إلى التراث الإسلامي على أنه اجتهادات بشرية محكومة بعقول وأفهام بشرية-من جهة- وبواقع خاص من جهة أخرى, وبالتالي فهي قابلة للأخذ والرد؛ لأنها اجتهادات بشرية, ولأنها مرتبطة بزمان ومكان خاصين وقد لا تتناسب مع غيرهما, والواقع أن أكثر هؤلاء أداروا ظهورهم لكل هذا الموروث وجردوه من أي صفة دينية قدسية, وأقصى حالات الاحترام لهذا التراث -عند هؤلاء- مجرد الدعوة إلى إعادة صياغته بكلياته وجزئياته بصيغة تتلاءم مع العصر, فعلى سبيل المثال يدعو طه حسين إلى إخضاع القرآن الكريم للنقد كأي نص أدبي, ويدعوا آركون إلى نقد العقل الإسلامي, ويقصد كل ما كان له دور في تشكيل العقل الإسلامي من نصوص القرآن والسنة واجتهادات العلماء السابقين, ويعتبر نصر أبو زيد القرآن نصوصا خاصة نزلت لتعالج وقائع خاصة لشخوص وأزمان محددة, ولا يصح –عنده- أن تعمم على غير هذه الوقائع, ومثلهما محمد شحرور وغيرهما ممن يسمون بالحداثيين, وما يجمع بين هؤلاء أنهم يخضعون التراث الإسلامي كله بما فيه القرآن والسنة للنقد والنقض والأخذ والرد, أي أن التراث الإسلامي –عند هؤلاء- كله تاريخ وليس فيه شيء مقدس.
الواقع أن هذين الفريقين لا يشكلان إلا قلة قلية, ولا يشغلان في الفكر الإسلامي إلا مساحة ضيقة جدا, تلك نتيجة واقعية علمية سيدركها أي قارئ أو مستعرض للمدارس الفكرية الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي, ولا أقول ذلك بقصد تجاهل هذين الرأيين أو قمعهما, مع أن معظم أصحاب هذا الفكر ينظرون إلى التراث الإسلامي نظرة قمعية ازدرائية, ويمارسون ضد أصحابه نقدا قاسيا بعيدا كل البعد عن الموضوعية واحترام الرأي الآخر, ولا يستثنون من ذلك أحدا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من نقدهم, ولا عجب في ذلك, فهم الذين يدعون إلى نقد القرآن وهو كلام الله المنزه عن أي نقص, ولك أن تتحقق من ذلك باستعراض موقف آركون مثلا من الصحابة رضوان الله عليهم, والمفسرين وأئمة المسلمين, وهو موقف قائم على تجريدهم من أي فضل واتهامهم بالتخلف والتسلط في تشكيل العقل المسلم.
بين إفراط الظاهريين وتفريط الحداثيين يجد الدارس للفكر الإسلامي أن الجمهور الأعظم من العلماء المسلمين فرقوا في تعاملهم مع التراث الإسلامي بين قسمين: الأول: ما هو نصوص سماوية أو وحي رباني بالمفهوم العام للوحي الذي يشتمل على السنة النبوية الصحيحة وما يدخل في حدود قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4), وهذا لا شك أنه دين مقدس يجب الالتزام به, ولا يصح بحال التلاعب به لا زيادة ولا نقصا ولا تبديلا, فضلا عن إخضاعه لعملية النقد البشري, والقسم الثاني: ما هو اجتهادات بشرية في فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع, وهذا بلا شك موروث تاريخي له قيمة كبيرة, يمكن الانتفاع به, والانطلاق منه, والبناء عليه, ولا يصح تجاوزه أو تجهله, ولكنه مع ذلك لا يحمل صفة الدين والقداسة, لذا فهو قابل للنقد أو حتى النقض والأخذ والرد والتطوير.
وبهذا المفهوم يمكن للثراث الإسلامي أن يجمع بين ما هو دين مقدس, وما هو تاريخ في ذات الوقت، أما الدين فهو النصوص القطعية -أقصد القرآن والسنة الثابتة- وهذه تمثل الأصول والكليات والأهداف والقواعد العامة, والمرن هو النصوص الظنية أي المحتملة لثبوت النقل وعدمه, وهي ما سوى القرآن والأحاديث النبوية الثابتة, أو النصوص المحتملة لأكثر من معنى, كلها بما فيها القرآن والسنة وهذه تمثل الفروع والجزئيات والوسائل وأساليب التطبيق.
وبهذا يجمع التراث الإسلامي وبمصطلح أدق الشريعة الإسلامية بين الثبات والمرونة, وهذا يجعلها قادرة على استيعاب كل المستجدات في كل العصور, مع محافظتها على المبادئ العامة والقواعد الكلية, وهذه - أقصد المبادئ- وحي من الله ولا يصح لبشر أن يتدخل فيها البتة, هذا إن سلمنا جدلا بأن أحدا من البشر قادر على التدخل فيها ونقدها وتعديلها, والصحيح أن ذلك فرض جدلي محال, يقول تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30), ثم إن أحق وأقدر من يضع هذه المبادئ الكلية التي تصرف أمور الخلق هو الخالق لا الخلق, الخالق صاحب الكمال والعلم المطلق الأعلم بطبيعة الخلق وما يصلح لهم, يقول تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50), من هنا قال صلى الله عليه وسلم (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه).
تبقى هذه فكرة واجتهاد بشري يستحق الاحترام والمناقشة ما دام أصحابها أناسا علميين موضوعيين يبحثون عن الحق, ولكن يُخشى من أن لا يكون هؤلاء علميين بل علمانيين يسعون إلى هدم الإسلام والإتيان على أصوله ومبادئه, بزعم أنهم يريدون تطويره والحق أنهم يريدون تطويعه, وبزعم أنهم يردون نقده والحق أنهم يريدون نقضه, وقد عرف التاريخ الإسلامي كثيرا من هذا الصنف, فإذا كان أصحاب هذا الفكر من هؤلاء فالواجب على العلماء فضحهم وكشف نواياهم ودفع شبهاتهم وأباطيلهم وتحذير الناس منهم.[/