الأسرة أحد العوامل الأساسية في بناء الكيان النفسي والتربوي للفرد، وفي مناخها تتم عملية تكيف الأطفال للمجتمع وأهدافه، وتشكل شخصيتهم، وفي أجوائها تكتسب العادات السلوكية التي تبقى ملازمة لهم على طول الحياة، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية، فالطفل فضلاً عن كونه يحكي وراثة والديه ويلخص قدراتهما واستعداداتهما الفطرية، فأنه مقلد لأبويه في أخلاقهما وسلوكهما أيضاً، والإسلام أراد لهذه الخلية الاجتماعية الحيوية أن تقام على أسس سليمة تتفق وهدف الحياة ومقاصد السلوك الخيّر السوي. وجعل بواعث التكوين العائلي في فطرة الإنسان وغرزها ضمن غرائزه الأساسية الذاتية، فقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21)، وجعل نظام الكون كله قائماً على أساس الزوجية فقال عز من قائل: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) (النبأ/
، كما جعل بدء تكوين الإنسان من إلتقاء خليتي الذكر والأنثى في رحم الأنثى فقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان/ 2).
وإذا كانت الحياة الزوجية تعبيراً عن غاية آلهية نبيلة، وتطبيقاً لسنة فطرية لا محيص لخلق الله منها، إذاً لابدّ من إقامتها على قاعدة من الأهداف الربانية والمقاصد السليمة، وتعليمات الرسالة خير دليل ومرشد لنا في مثل هذه المجالات والميادين العملية.
فالله تعالى يريد من الأسرة المسلمة أن تكون قدوة حسنة طيبة تتوافر فيها عناصر القيادة الرشيدة وملامح حياة المتقين الصالحين ولذلك فهو يطري على أسر الصالحين الذين يدعونه بصالح الدعوات في بناء الأسرة بقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74). والانتقاء الوراثي لوضع الزوجة المنتخبة عامل من أهم عوامل الصلاح والخير المؤمل في سلوك الزوجة وذريتها. لأنّ ما ثبت علمياً يؤكد عمق تأثير العامل الوراثي بما يفرزه من استعدادات وقدرات على وضع الأولاد وقابلياتهم.
والإمام علي (ع) يؤكد هذه الحقيقة بقوله: "انما طبايع الأبرار طبايع مُحتملة الخير فمهما حملت منه احتملته"[1]، فلولا وجود (الاحتمال) الاستعداد والقدرة الفطريتين عند الفرد لما استطاع أن يقوم بانجاز عمل أو الاتسام بسمة أو التحلي بصفة، فطبيعة الإنسان البار تُنجب ما يماثلها والطبيعة الشريرة تنجب ما يطابقها، فقد تنحي باللائمة على التصرفات السيئة لبعض الأفراد في حين انّهم لا ذنب لهم في ذلك، لأنّهم ورثوا من آبائهم استعدادات تلك الأعمال والصفات. ولذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يقول: "رب ملوم لا ذنب له"[2] للتدليل على مثل هذه الإحالات بأسبابها الوراثية التي لا تدخل للأفراد في وجودها.
ويوضح هذه الحقيقة الإمام الصادق (ع) بشكل أكثر تفصيلاً فيوعز بعض مظاهر السلوك والإمكانات الفردية إلى أسباب وراثية قدرية ليس للفرد فيها نصيب الأحداث أو التغيير، يقول الإمام (ع): "ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة والجهل والرضى والغضب والنوم واليقظة"[3]، هذه المسائل وإن بدت لأوّل وهلة لنا بأنّها إرادية وخاضعة للجد والاجتهاد الشخصي ولكن تأملاً أعمق في مقصود الإمام (ع) يظهر لنا هدفه في بيان الأسباب الكامنة وراء هذه المسائل الظاهرة، فالمعرفة والجهل صفتان مكتسبتان ولكن ليس بدون وجود استعداد فطري سابق عليهما، فنحن نتعلم أو نبقى جهلة تبعاً لقدراتنا العقلية الموروثة، وحالة المخ عند الولادة من حيث السلامة أو النقص، فالذي يولد وهو قليل الذكاء، أو معتوهاً لا تستطيع وسائل التربية والترويض أن تجعل منه نبيهاً مفكراً مهما بذلت من جهد ومشقة.
والقدرات العقلية كما بيّنا سابقاً تعتمد الأساس الوراثي وليس الأساس البيئي في انطلاقتها، وعوامل البيئة انما تعتمد ذلك الأساس في عمليات التفتح والتغذية والتوجيه.
وكذلك حالتا الرضى والغضب، انما هما مظهران لحقيقة مزاجية يرثها الإنسان عن آبائه، تشترك في صنعها طبيعة النسيج العصبي الموروث (وعملية الأيض) عنده والتي نعني بها التفاعل الكيمياوي والفيزياوي داخل أجهزة الإنسان والتي تتضمن عادة افرازات الغدد الصم، وتبدل تركيب الدم وما يستتبع ذلك من تحفز الإنسان أو استسلامه لحالات الطوارئ والمواقف المثيرة، وطريقة تصرفه أزاءها.
فالمزاج الشخصي الذي يتسم به الفرد يعتمد على قاعدة القابلية الوراثية غالباً ولا تستطيع عوامل التربية والمحيط الاجتماعي إلا تعديلها وترويضها لتطابق مطالب المحيط وطريقة فهم الإنسان لنفسه بنسبة طفيفة.
أما حالتا اليقظة والنوم فهما حالتان فسلجيتان تعتمدان أساساً على مدى تحمل الإنسان للإجهاد والتعب، وطريقته البنائية الخاصة في استعادة حيويته وتجديد نشاطه، ولا علاقة للإنسان بحال في تغيير قدراته الموروثة في اليقظة والنوم إلا بمدى ما تسمح به استعداداته الفسيولوجية.
بعد ذلك يقرر الإمام علي (ع) في أحد بياناته حقيقة علمية تتعلق بعدم إمكاننا اصطناع الوراثة الحسنة إلا من طريقها الذي وضعه الله تعالى، وهو في ذلك يرى استحالة نقل الطبيعة البشرية إلى الأفراد كما نريد فهو يقول: "كل شيء يستطاع إلا نقل الطباع"[4]، ويلفت أنظارنا إلى مظاهر الشخصية المصطنعة غير المعتمدة على استعدادات فطرية موروثة أصيلة، ويحثنا إلى عدم الركون إليها في أحكامنا بقوله: "لا تزكوا الصنيعة مع غير أصل"[5].
والإمام (ع) يقيّم الاستعدادات الموروثة فيثني على بعضها ويرثي بعضها الآخر فيقول: "بئس الاستعداد الاستبداد"[6]، توضحاً منه (ع) لظاهرة الأنانية السلوكية التي تخفي وراءها عاملاً موروثاً يحركها ويقويها.
الهوامش:
[1]- غرر الحكم، باب الطباع، 5.
[2]- نهج البلاغة، ص884.
[3]- اثبات الهداة بالبراهين والمعجزات، الحر العاملي، ج1، ص85.
[4]- غرر الحكم، في باب الطباع.
[5]- غرر الحكم، في باب الأصل.
[6]- الكافي، للكليني، ج1، ص85.
المصدر: مجلة الفكر الجديد/ العدد الأول لسنة 1992م